في زوايا التاريخ الإسلامي تقف أسماء لامعة شكّلت مزيجًا فريدًا بين العلوم والفنون، وكان عمر الخيّام أبرز هؤلاء،

فقد استطاع أن يجمع في شخصيته المتفردة بين عبقرية الرياضي، ودقّة الفلكي، ودهشة الشاعر، وتأملات الفيلسوف.
ولد غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام في 18 مايو من عام 1048 بمدينة نيسابور في إقليم خراسان،
لأسرة يُعتقد أنها عملت في صناعة الخيام، وهي المهنة التي اشتُق منها لقبه. منذ شبابه، أظهر نبوغًا في شتى العلوم،
مما أهّله لاحقًا ليكون أحد أعظم مفكري وفلاسفة الشرق الإسلامي.
عالِم الجبر الذي طوّع المعادلات التكعيبية
تميّز الخيام بإسهاماته الرائدة في علم الجبر، حيث كان أول من صنف المعادلات من الدرجة الثالثة
وحاول حلها باستخدام الوسائل الهندسية، وتحديدًا القطوع المخروطية، وهو سبق علمي لم يُستوعب في الغرب إلا بعد قرون.
كما ترك بصمته في تطوير مفهوم ذات الحدين، وأعماله في التحليل الجبري أثرت على مسار الرياضيات الحديثة.
مبتكر تقويم يفوق الميلادي دقة في مجال الفلك، كلّف السلطان السلجوقي “ملكشاه” عمر الخيام بإعادة ضبط التقويم الزمني للدولة،
فقاد مشروعًا علميًا ضخمًا أثمر عن التقويم الجلالي، الذي تفوّق على التقويم الغريغوري من حيث دقّته،
إذ بلغ طول السنة فيه 365.242198… يومًا، وهو ما يجعل الفارق لا يُذكر حتى بعد آلاف السنين.
الفيلسوف الذي أثار الجدل
لم يكن الخيام عالمًا رياضيًا فحسب، بل كان أيضًا مفكرًا شغوفًا بالتساؤل الوجودي،
يميل إلى الشك العقلي وطرح الأسئلة الكبرى حول المصير والخلق والحياة.
هذه النزعة العقلانية جعلته عرضة للتأويل والاتهام أحيانًا، حتى أنه اضطر إلى أداء فريضة الحج
في نهاية حياته تهدئةً للشكوك التي أُثيرت حول معتقداته.
شاعر الرباعيات الخالدة
ورغم إنجازاته العلمية، فإن اسم عمر الخيام ارتبط في الذاكرة الجمعية برباعياته الشعرية،
تلك القصائد القصيرة ذات الأربعة أبيات التي تجلّت فيها فلسفة وجودية ممزوجة بالتأمل،
والشك، والدعوة إلى اغتنام اللحظة. انتشرت رباعياته في العالم الغربي بعد ترجمتها إلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر،
خصوصًا على يد الشاعر البريطاني إدوارد فيتزجيرالد، فذاع صيته كواحد من رموز الأدب العالمي.
ومن أشهر ما نُسب إليه من الرباعيات:
“لبستُ ثوبَ العمرِ لم أُستشر،
وسوف أنضو الثوبَ عني ولم أدرك…”
إرث خالد وعزلة حكيمة
توفي عمر الخيام في 4 ديسمبر 1131، في نفس المدينة التي وُلد فيها،
وذُكر أنه دُفن في بستان تتساقط فيه أزهار المشمش مرتين في السنة، كما تنبأ في إحدى رباعياته.
ورغم العزلة التي لازمته في سنواته الأخيرة، ظلّ اسمه حيًا في ذاكرة العلم والأدب.
واليوم، يُعاد إحياء فكر الخيام من خلال دراسات علمية وأدبية متجددة، تبرز قيمة إنجازاته في سياقها التاريخي،
وتؤكد أن هذا الرجل كان واحدًا من أولئك النادرين الذين طوّعوا الزمن والمعادلة، كما طوّعوا الكلمة والقصيدة.
أضف تعليق